لسان الجرس

في القرية التي صارت قريتي بحكم أني ولدت ونشأت وكبرت فيها قبل أن "أهشل" منها كانت أوراق "النعوة" تُلصق على الجدران.
لم أعد أذكر حجمها لكنها كانت كبيرة كفاية فتسهل قراءتها دون مشقة، وصغيرة،  أصغر بكثير من تلك التي أثارت ضحكي عندما رأيتها معلقة على جدران قرية  "اورغوسولو" الإيطالية، كبيرة لدرجة تظنها بحجم القرية.

كان العنوان الرئيسي في أوراق النعي في قريتنا ثابتا٬ لا يتغير بتغير أسماء المتوفين وعائلاتهم وسلالاتهم. لم أعد أذكر من كان يخرج الى العلن أولاً، الورقة أم جرس حزن الكنيسة. جرس الحزن، دقاته متباعدة وكأن هناك قاعدة تضبط عدد الثواني التي تفصل بين رنة وأخرى. طن... طن... طن...
جرس الحزن وغيره من الانفعالات لم يكن مسجّلاً على أقراص مدمجة كما اليوم، كان هناك دائماً "بني آدم" يأتي ليشد الحبل ـ ربما بكل قواه ـ  ليقرعه.

لا أعرف بالضبط ما كانت التقنية  الجسدية المتبعة للقيام بهذا العمل غير أن نظراتنا كانت  تتقد فضولاً عندما نتحلق حول الرجل وتصير رؤوسنا تصعد وتهبط معه عند كل "نتعة" وأعتقد أننا حاولنا مرة نحن أولاد الحي مجتمعين في كتلة واحدة٬ شد الحبل من أجل غرض القرع ففشلنا وارتفع أنحف واحد فينا مع الحبل صعودا ثم لبد على الأرض لبدة من غير بكاء، فالكرامة والخوف من تضاعف السخرية حافزان مقنعان.

فشلنا كلمة غير دقيقة!
رن الجرس رنة واحدة٬ رنة ذهاب بلا إياب. لا بد وأنه في تلك اللحظة التي ارتطم فيها لسان الجرس بجداره  وأثناء هربنا٬كان سكان القرية ممن سمعوا الرنة اليتيمة قد انتظروا تلك التي ستليها قائلين في أنفسهم أو لمن حولهم: "شكله جرس حزن" أو: "أبصر مين مات!" عندها٬ كانوا ربما يهرعون إلى الساحة لتسقّط الخبر أو قراءة ورقة "النعي" إياها٬العنوان الثابت الكبير "البولد" فيها:

من آمن بي وإن مات فسيحيا.

لم تكن الجملة مشَكّلة  لذا ربما كنت وما زلت حتى اليوم اقرؤها كلما تعثرت بها على حائط ما: فسِيحاً!

 كيف ولماذا فسيحاً ؟ هذا أيضاً لغز من الألغاز التي سيفنى الكون قبل أن نجد له حلاً!
وقد يكون عقلي الطفل تدبر أمره وقتها ليجعلها فسيحاً كونها أفضل من عبثية وإن مات فسَيَحْيا!

ثم جاءت معضلة "وإن".

ـ "وإن" يعني هناك احتمال ألا يموت يا بابا٬صح؟

ـ لأ٬ لأنه بكل الأحوال سيموت

ـ و"إن مات" لغوياً ألا تعني: في حال مات؟

عموماً لقد مات أبي.. مات كثيراً..

اليوم٬ أقول إن فسيحاً أو فسَيَحْيا كانتا وقتها صمام أمان فعّال لمواجهة ذلك الذي اسمه موت.
اليوم٬ أزعم أنني أعرف الفرق بين القلق من فكرة الموت والخوف منها كما أعرف أني في مكان بينهما لا تعريف له... لكنه يبدو لي فسيحاً !
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
7 Comments
رائع ... الاسلوب جداً متقن .. وطريقة تشبيهك للقرية والجرس واجواء الترقب لصوت الجرس كان رائع .. هذا البوست كان جرعة مركزة من كتابة ذات مستوى راقي .. تحياتي
أعادتني كلماتك لصفحات أسرار صغيرة.
ممتع وموجع. وهذا هو الأدب. استمري في الكتابة
تقرأ وتأسف أن لهذا النص نهاية
اوافق السيد باتريك في ما قال. انه لنص بديع حقا، ممتع وجميل. يحلو لي ان اشبه ريتا بحديقة يابانية مشغولة بحب كثير بين قلوب متآلفة
جميل ريتا
أحببتُ الموضوع. أنا أحد القرّاء المفتونين بالأشياء الصغيرة والعادية التي بالإمكان استيلاد أدبٍ جميلٍ منها. ورقة نعوة. جرس ولسانه. النصوص التي كهذه بسكويت أدبي. تحية للكاتبة على هذه النافذة الجميلة إلى قرانا الجبلية، التي بوسعها، رغم الهدوء العدائيّ وبلادة الوقت فيها، أن تكون مترعة بالقصص.

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.